الجندي الثائر - قصة

0

لتحميل القصة كاملة ملف PDF مجاناً
GOOGLE DRIVE
Gulf Up
MEDIA FIRE
4shared
up.top4top
up-00
ِARAB SHARE
روت لنا الحياة من الغرائب والعجائب ما يجعل المرء يذهل عن تحديد قوانين ثابتة لتقلبات الأيام ويضع الآلاف من الاستثناءات لكل قاعدة يظن الإنسان يوماً أنها ثابتة..
وقد تكون غرائب بعض العصور معجزات، وتجد غرائب عصور أخرى مجرد أحداث يعجب لها التاريخ فيطويها في سجلاته وكتبه، فيحكيها تارة باختصار، وتارة باستفاضة بتناسب طردي مع شدة انبهاره بتلك الأحداث..
تحكي روايتنا عن جندي من جنود قوم لهم خوذات فولاذية صنعتها أيدي الحرفيين للجنود لتقي رءوسهم ودروعاً حديدية تغطي أجسادهم من الهامة إلى القدم..
ولم تكن الخيول مهضومة الحقوق عند هؤلاء القوم، بل كانت تغطى أيضاً بدروع حديدية تناسب أجسادهم، وكانت جيوش القوم تجتاح بلدان العالم آنذاك اجتياحاً شديداً وكان النصر دائماً حليف ملكهم وقائدهم المظفر عمران بن منصور الراشد، وكان كلما نزل ببلد يجعل عاليها سافلها فينكل بملوكها ويمثل بأجساد قتلاها، فكان سادي النزعة رغم بشاشة وجهه التي اعتادها لكثرة فتوحاته وانتصاراته..
كان ذلك الجندي بطل روايتنا ذا نزعة ثورية تمردية، انطوت في قلبه كالنار تحت الرماد، توشك أن تشتعل..
إنه لن ينسى ذلك اليوم الذي اجتاح فيه جيش ذلك الطاغية الجبار عمران الراشد بلدته وقتل أباه الذي وسبى أمه فكانت ملك يمينه، وصار هو عبده وظل يحتمل مرارة الظلم ويتجرع كؤوس الذل والهوان..
إنه لن ينسى أن أباه الرجل الطيب كان يعيش هو وأمه في كنفه حياة الشرفاء الأثرياء، وجاء ذلك الطاغية فجعل أعزة أهل بلده أذلة..
وظل يحيا في حيرة من أمره.. فأنى له أن يفر من الذل ويترك أمه التي كاد قلبها أن يطير من بين ضلوعها عندما استمعت لفكرته ذات ليلة بالفرار حينها هتفت به:
وأين سنذهب يا ولدي؟! .. ذل الاستعباد أهون من ذل التيه والشرود في البلاد.
فصاح بها وفي حلقه مرارة:
الموت أهون من ذل العبودية..
حينها بكت أمه وفاضت دموعها لتغسل وجنتيها فلم ينبث ببنت شفة..
وذهب إلى فراشه لينعم بالقليل من النوم قبل أن يعلن اليوم التالي عن شروق شمسه لمواصلة مشوار الذل.
ورقد على فراشه وعيناه تدمعان يتفكر في حاله
جندي يدافع عن نفس الطاغية الذي قتل أباه واستحيا أمه..
يقتل رجالاً كما قُتل أباه من قبل..
يخرب.. ويقتلع عمران المدن..
عجباً لحال تلك الأيام، عندما يضطر المرء أن يفعل في الناس ما فُعل به، حين تدور الأيام.. فتكون معنا اليوم، وغداً علينا..
كيف لنا أن نرضى بدنيا هذه حالها..
تغدر بنا وتكون هي حبنا الأول..
والموت عدونا اللدود، رغم أنه ينقذنا من غدرها..
غدر الأيام..
وهذا ما يطمئن قلبي ويريح عيناي فأجدني قد غفوت في سلام..
أن الأيام لا تبقى على حال..
وسيأتي يوم ما.. ليصبح جبار اليوم..
قتيل الغد..
ليصبح منصور اليوم..
مهزوم الغد..
فمتى يقترب وعد الفتح؟!
ونهاية الطاغية عمران..
كذب من سماه عمران وهو رمز الخراب، والآن أظلمت الدنيا من حولي..وأغمضت عيناي، فقد حان وقت النوم..
دق ناقوس الاصطفاف بصبح اليوم، وقد نفخ فيه ذلك الجندي ليصطف كل جندي مع فرقته، فالمشاة يقفون في ثلاثة صفوف، والخيالة يقفون في عشرة صفوف، والرماة من خلفهم يقفون في سبعة صفوف، وهكذا حتى يمتلئ الميدان، ويصطف جند الملك المظفر عمران الراشد.. ليعلنوا عن مجيئه ووقوفه أمام الجيش الجرار.. فيخطب فيهم خطبة الحرب، ويعلمهم ببدء الغزو..
وهكذا كان ملكنا يستنزف جيشه..
كانت تلك أول نقطة ضعف له..
فكثرة الحروب وشراهة المغنم هي السبيل الأوحد لخراب أي دولة مهما بلغت قوتها..
ورغم أن ملكنا عمران الراشد كان له من الجند في كل بلد يغزوه ويفتحه ما لا يعد ولا يحصى..
إلا أنه قد كانت توجد نقطة ضعف أخرى..
ثغرة خطيرة..
فجوة تتسع يوماً بعد يوم
وشهراً بعد شهر..
وعاماً بعد عام..
فجوة الولاء..
والانتماء..
فكل جندي في تلك الجيوش الجرارة.. كان حاله مثل حالي..
يتأسف على ماضيه..
يواسي نفسه للحال الذي أصبح فيه..
كان قائداً بالأمس..
فأصبح اليوم جندياً..
وكان عزيز الأمس..
ذليل اليوم..
هكذا هو حالنا..
وكان هذا سر قوتنا..
خرجنا في ذلك اليوم لغزو تلك المدينة الحصينة ذات القلاع البيضاء والجنود الرماة المصطفين بشكل مدروس على أسطح حصون المدينة، وبجانبهم مواقد النيران ذات القوائم الحديدية ليشعلوا بها نبالهم فتحرق كل من تسول له نفسه الهجوم..
تهيبت تلك الاستراتيجية العسكرية، فهي أدعى لإرهاب الجيش الذي يريد محاصرة تلك المدينة الحصينة، وقوة النيران لا يستهان بها في الحروب، فهي تحرق وتنتشر بسرعة شديدة ومن السهل أن يحترق جيشنا بأكمله خلال يوم واحد من جراء اشتعال النيران في جنوده.
وبالفعل تحققت فراستي، وقد تسربت عدوى الخوف إلى قلب قائدنا فنادى فينا..
يا جند الملك المظفر .. عمران الراشد
فلننسحب الآن لحين استبدال خطة الهجوم بأخرى بديلة، فلم تعد خطتنا صالحة للهجوم الآن..
وبدأت صفوف الجيش تتراجع في نظام حتى عدنا إلى مدينتنا مرة أخرى، ولما اجتمع قائد الجيش وليد بن عز الدين الجرجاني مع قادة الكتائب.. استهل حديثه الرصين بصوته الجهوري وقد اكتسى وجهه المستدير بملامح الحزم والصرامة وقال:
إنه من العار علينا أن ينسحب جيشنا الجرار، الذي أخضع أشد المدن حصانة، وحطم أمتن القلاع بنياناً، وسقطت على يديه أعتى الملوك وأدهاهم، وغُلت بقيود جنده أيدي أكثر أجناس الأرض، حتى غدت بلاد الأرض ملك يمين ملكنا العظيم أدام الله ملكه..
ولكن، تأتي الريح بما لا تشتهي السفن، ولذلك سوف نقوم بتنفيذ خطة قام على وضعها نخبة من رجالنا العباقرة الذين اشتعلت مواقد عقولهم بتلك التدابير النارية والتي من شأنها تدمير عدونا من الداخل ومن ثم ننقض عليه كالنسور ونلتهمه من الخارج فنقتلع حصونه ونجتث قلاعه، ونسوم جندهم سوء العذاب، فنعود بهم أسرى، وبنساءهم جواري..
هتفت صفوف الجند المتراصة بأناشيد المجد للقائد المظفر، وسرعان ما عادواً لخشوعهم مهطعين مقنعي رءوسهم ترتجف آذانهم لتعليمات قائدهم الجرجاني المبجل بصوته الجهوري المجلجل، حتى حانت لحظة اصطفاء الجواسيس الذين سيعملون على اختراق صفوف المدينة الحصينة ومعرفة أسرارهم ومن ثم يخرج أحدهم من المدينة ليعود إلى مملكة القائد عمران ويخبره بما تحصل عليه رجاله من أخبار سردية تصف عادات أهل المدينة وتقاليدهم، وأكلاتهم المفضلة، والسلع الأكثر رواجاً بينهم، أثمانها، ومن ثم يرسله مرة أخرى ببضائع تحتوي على مؤن غذائية مسمومة وتوزيعها على التجار بأبخس الأسعار، ومن ثم يلتمس سبيل تم التخطيط له مسبقاً للهروب ليلاً، والعودة بعد انتشار السلع الغذائية المسمومة ويتولى الآخرون دور بث الإشاعات المدروسة لأسباب حالات التسمم، وأنها حيلة افتعلها رجال الحاكم للقضاء على أهلها والاستيلاء على ممتلكاتهم بحجة أنها من حق الدولة، ومن المحتم أن تنطلي تلك الإشاعات على الكثير من أهل المدينة فتشتعل الفتنة بين الأهالي ونظام الحكم فيقوم رجال القائد المظفر عمران باختطاف بعض الضعفاء من أهل المدينة وتعذيبهم بحجة أنهم من رجال النظام الحاكم، فتزداد نيران الفتنة أكثر، حتى ينشغل جند المدينة بتلك الشئون الداخلية ومن ثم يبرز جيش القائد عمران من الخارج ويقوم بحصار المدينة بحجة إنقاذ الشعب المضطهد من مخالب الحاكم الطاغية وأنيابه..
وكنت أنا من ضمن قائمة الجواسيس المرسلين إلى المدينة الحصينة وقد تسلمت مهامي مرقمة بترتيب زمني وتكتيكات فنية قاموا بشرحها لنا، وكيفية تدبير أمورنا ووسائل الاتصال بيننا وشفراتها، وكيفية تحويل الأدوار، واستقبال الرسائل ونقلها من الداخل إلى الخارج، واستغلال الأطفال والنساء لتسريع عملية انتشار الأخبار الكاذبة، والكثير من الأشياء تلقيناها بشرح مستفيض، وأداء تمثيلي يحاكي ميدان المعركة..
عدت إلى بيتي في تلك الليلة، لأمي التي افتقدتني، وكانت قلقة بشأن ذهابي إلى هناك حيث لاتدري متى سأعود، وما هي طبيعة مهامي الجديدة، ولم تفارقني طيلة المساء، حتى غطت في سبات غلب عيناها المرهقتين، فأخذت أفكر بأحلامي القديمة، وهاهي قد حانت لحظة الانقلاب التي طالما اشتقت إليها..
مزيج من الخوف والأمل، هل سيصدقني حاكم تلك المدينة عندما أذهب إليه وأبلغه بمخططات القائد عمران، وكيف سأقنع أمي بالرحيل إلى تلك المدينة قبلي؟!، وهل يمكن أن ينكشف أمري؟!، أم سيسير كل شيء على مايرام..
انتابتني الهواجس والمخاوف، التي ارتجف لها قلبي، وداعبتني الآمال في الخلاص وأن ذلك هو سبيله الوحيد..
والأخير..
استيقظت ووجدت أمي تجهز طعام الإفطار، ولم أجد بداً من الانتظار فحسمت أمري وأبلغتها بقراري بالرحيل، وأنها يجب أن تحزم أمتعتها وترحل بظلمات المساء إلى تلك المدينة، وقد أعددت لها حيلة دخول المدينة، والاختلاط مع سكانها لتجد سبيلاً هنالك للاستقرار، ومنحتها كل ما ادخرته من مال لتستعين به على العيش لأيام قادمة حتى أصل إليها هناك، ومن ثم إبلاغ حاكم تلك المدينة بكل شيء وطلب العيش في مدينته كمواطن حر له الحق أن يحيا حياة كريمة..
وأسدل الليل ستائره واحتضنت والدتي المرتجفة أطرافها وأردفتها على جوادي وقطعنا الطريق إلى المدينة القريبة حتى بلغناها عند طلوع الشمس، فجعلت أمي تنادي على الجند القائمين على حراسة القلاع وأنا أنظر إليها من بعيد، وقد أبلغتهم ما لقنتها، وقد انطلت حيلتها عليهم، فهي سيدة عجوز يبدو التعب على وجهها والخوف، فأثارت شفقة الجنود، وأدخلوها المدينة في تلك الساعة بصحبة أحدهم، حتى غابت عن ناظري، فاستودعتها الله حتى لقاء قريب، ووليت مدبراً أتخذ طريق العودة..
جاء اليوم الموعود وذهبت إلى ثكنة كتيبة الجواسيس للاستعداد للخروج من المدينة، والسفر إلى هنالك حيث تبدأ مهمتنا، وقد كان يغمرني الشعور بالهلع ممزوجاً بالسعادة التي كادت أن تقتلع قلبي من بين أضلاعي، حتى وصلنا إلى المدينة ومعنا الكثير من البضائع التي جعلت حراس المدينة ينسون كل شيء وينقضون على بضائعنا المثيرة بالشراء، وقد سمحوا لنا على الفور بدخول المدينة، وأخذنا نصول ونجول بها، حتى نفذت بضائعنا، فخرج اثنين منا في اليوم التالي بحجة شراء المزيد، وهنا حانت ساعة الصفر، فأسرعت بالمساء إلى حاكم المدينة، وقد أخبرته بكل ما لدي، فعرضني على أحد مقربيه من حكماء الفراسة ليتفرس ملامح وجهي وقد استبان له أنني أحدثه بالصدق، فحمدت الله ربي بزفرة صعداء، وقد أمر لي الحاكم بتدبير مسكن مناسب ومجموعة من الهدايا والأموال، وأرسل منادياً على أتان مزينة بلباس مميز للذين يمتهنون النداء في الناس، ليبلغ أمي بالشفرة التي اتفقت معها عليها لتعرف مكاني، ففهمت على الفور نداء المنادي "إلى من يهمه الأمر، لقد جاء الولد، وانتهى الكبد، وعنوانه عند الملك"
فتهللت أساريرها فور سماع النداء وأخذت متاعها وغادرت حتى بلغت قصر الحاكم ورأت ولدها وعانقته بلهفة شديدة متحدرة دموعها على وجنتيها، وقد انصرفا من القصر حتى بلغا المنزل الذي أمر له الحاكم بامتلاكه وقد حمل متاعه من الهدايا والأموال إليه، وأرسل الملك جنده للقبض على الجواسيس..
وقد أمر قوات الجيش بمهاجمة مدينة القائد عمران الراشد، ومباغتته وحصار مدينته، وقد عرفت من أحاديث القصاص، أن الكثير من جنود الجيش قد انقلبوا عليه وفروا إلى الصفوف المهاجمة ووالت حاكم المدينة الجديدة..

وها أنا الآن أحيا حياة هانئة مع أمي الحنونة في حرية وسعادة بالغة وقد عملت بالتجارة، ورزقني الله بالكثير من الأموال فكنت أتصدق بما أستطيع، شكراً لله على ما أنعم به علي في تلك المدينة الصالحة التي تحصنت بالعدل، فرد الله كيد أعدائها في نحورهم، وأطفأ نيران الفتنة التي دبرها ذلك الطاغية الذي كنت أسيره بالأمس..
Tags

إرسال تعليق

0تعليقات
* Please Don't Spam Here. All the Comments are Reviewed by Admin.

رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك

رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top