يا صاحبي السجن - قصة

0

تنويه- يمكنك الحصول على جميع أعمال الكاتب مجانا عبر قناة تليجرام الكاتب محمد صلاح .. 
أظلمت الدنيا أمام ناظري، وتلاشت أضواء الحرية الدافئة تاركة صقيع الرهبة يزلزل كياني وثلوج اليأس تجمد أوصالي، وضلوع صدري حبست فؤادي وحكمت عليه بالحبس دون نبض أو مشاعر إلى أجل غير مسمى.

لتحميل القصة PDF مجاناً



دفعتني يد السجان كأنني جوال معبأ بالقمامة إلى داخل سكني الجديد المظلم، وقد أخذت أتفادى شيئاً حياً داسته قدمي لم أستطع رؤيته جيداً ويبدو أنه فأر حكمت عليه محكمة القطط بالمكوث معنا في السجن إلى حين ينقضي أجله على يد أحد المساجين، إلا أن ذلك الفأر كان شجاعاً، ورغم أنه يستطيع النفاذ من بين القضبان الحديدية إلى الخارج إلا أنه فضَّل المكوث بيننا في شموخ وأنفة من أن يطلق عليه هارباً من العقوبة، هنيئاً لك أيها الفأر فلقد رفعت رأس عشيرتك من الفئران، وهنيئاً لتلك الرموز البارزة من جنسكم تعلمنا منها الكثير، فها هو "جيري" في جميع حلقاته تحدى القطط والكلاب واستطاع بمقدرته العجيبة على الهروب ونصب الفخاخ والمقالب الساخرة أن يواجه كل المخاطر بشجاعة وحزم ويخلد اسمه في التاريخ الحديث، الذي زيف كل الحقائق، فمجد قامات الخسة، ونكَّس هامات الطهر والفضيلة..
لم يعد لذلك الزمان الذي نعيشه أي ملامح واضحة، فلقد أضحت فيه الحقيقة عن الجميع كأنها العذراء في خدرها، ولا تكاد تمتد يد لكشف الستر إلا وتطولها سهام الاتهام، تقذف بها أيدي اللئام المرتعدة خوفاً من فضحهم وكشف عوارهم أمام الكون والتاريخ ومن ثم تزول دولهم وممالكهم التي نصبت عروشها على بحار الكذب المملوءة بمياه الخرافات المنتنة.

لتحميل القصة PDF مجاناً
ولهذا سجنوني..
كنت في إحدى الأمسيات الثقافية، بين أربع جدران لمكتبة عتيقة كانت من رموز حضارة عصر بائد، وكانت تلك الأمسيات أسبوعية ولها حفلات عامة ربع سنوية غير حفلات التوقيع لكتب المواهب البارزة التي تخرجت من فرق طلائع المكتبة وشبابها وقد اتفقوا جميعهم مع إدارة المكتبة بموافقة ورعاية هيئة قصور الثقافة بإصدار كتاب مجمع يجمع بين دفتيه بواكير أعمالهم وخلاصة أفكارهم ومحاولاتهم البريئة لإخراج كتاباتهم إلى العلن.
وكانت أمسية حفل مناقشة الكتاب وندوة عن المواضيع الواردة فيه، وكنت من بين المشاركين في الكتاب، والحاضرين أيضاً رغم أن مشاركتي في الكتاب فوجئت قبل الحفل بيومين أنها لم تُقبل للنشر بتمامها، وحُذفت حذفاً من الكتاب، ورغم أن بعض العاملين بإدارة المكتبة قد التمسوا لي العذر وإتاحة الفرصة لي بالمشاركة بمحاولة أخرى في نفس الكتاب إلا أن الموظف المسئول رفض تماماً وأمر بإخراجي من عضوية المكتبة وحذف اسمي من كل الحلقات والندوات والأمسيات التي شاركت فيها تماماً وبلهجة حادة ملوحاً بتهديد ووعيد: أريد لذلك الولد أن يتبخر تماماً  كالماء، كأنه لم يكن...


لتحميل القصة PDF مجاناً
ولم ينبث أحدهم ببنت شفة وخيم عليهم الصمت الوجوم وغيمت على وجوههم الغيوم، ونبضت قلوبهم بدماء الرهبة الباردة وقد أجمعوا أمرهم بتنفيذ ما طُلب منهم..
دون شفقة أو رحمة..
وحكموا عليَّ بالخروج من الحياة الثقافية التي لطالما كنت أجد فيها نفسي، وأشعر فيها بكياني، وتتولد فيها بنات أفكاري من رحم الكتب التي كنت أطالعها بنهم، فبين الماضي والحاضر عشت أنبش التراث وأتنزه في بساتين الفكر المعاصر لرموز تعيش بيننا بكلماتها وكتبها شعراً ونثراً، وأخذت أترعرع فيها كنبات يرتوي من معينها، ويمتص منها عصارات أفكار عقول الماضي العتيد والحاضر الجديد، ويسيل قلمي بكلمات لم أحلم بأن أفكر فيها يوماً ، كأنها ليست من أفكاري، وكأني لست كاتبها، فهناك أمم بداخلي تفكر وتحرك أناملي بحروف يسود بها قلمي سطوراً دون إرادتي.
وجدتُ أمماً قد خلت كأنها عادت إلى الحياة بداخلي تمليني حكمة الدهور وخلاصة تجارب البشر، وكيف يجري التاريخ، فتعلو أمم وتتهاوى أمم، وكيف تزدهر الحضارات وكيف تضمحل، وكيف تعمر القرى ويتحضر البدو، وكيف وكيف..


لتحميل القصة PDF مجاناً
أخذت أسرح بخاطري في تاريخ ابن خلدون، وكيف كان يستنبط من التاريخ قوانين ذلك العالم، وكيف كان يعتصر عقله فيخرج لنا خلاصة أسرار العمران واجتماع البشر، بل وسياستهم واقتصادهم.
أخذت أدون خواطر جمة تتوارد علي من حيث لا أدري..
أهي من عليين..
أم من سجين..
فكتبت خواطري عن واقعنا.. كيف أراه، وماذا أريد أن أراه، ولماذا أريد أن اراه كذلك، ولا يعيب المرء أن يفكر في الواقع من حوله كيف يشاء، بل إن العيب هو أن يحاول فرضه فرضاً بالقوة دون بيان أو برهان..
ولم يحدث في أيام عمري أن تمعر وجهي وقطب حاجبي من أجل اختلاف أحد من الناس معي، ولم يحدث أن ارتعدت أوصالي من اتهامي بالسفاهة أو الجهالة، ولا العمالة والدجل..
فرغم كل شيء كلنا نفكر وكلنا نصيب كما نخطئ، فليث من ثمة عيب في ذلك، فالإنسان زينه الله بالعقل وسخر له كل شيء بالفكر والإرداة والعمل، وبقدر ما يكد الإنسان ويجتهد ويوفق بين فكره وإرادته وعمله، بقدر ما يعلو ويزدهر وكذلك المجتمع، فإنه ليس إلا صورة مكبرة من الإنسان، كما الإنسان صورة مصغرة من المجتمع.
وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً"
وقوله "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر  الجسد بالسهر والحمى".
فهذا هو المجتمع كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل أسسه قائمة على إرادات بالود والرحمة والعطف، والوحدة على المبادئ والشرائع المنظمة لتعاملاتهم للوصول إلى الهدف الأسمى وهو الإنسانية..
أن يصبح المجتمع إنساناً كبيراً، أفراده أعضاؤه، ثقافته هي عقله، واجتماعه سر قوته، فهكذا هو السر..
هكذا هو القانون  الحقيقي..
هكذا هي الشرائع تجمع ولا تفرق..
فقط تجمع النفوس التي تقدس الإنسانية..
تدرك معنى كلمة إنسان..
تدرك كيف تسمو بروح الإنسان، وتهذب جسده..
وكيف أن الفرد ليس فانياً في المجتمع كما يريد البعض بل هو أساس المجتمع..
وكيف أن المجتمع ليس ديكتاتورياً مثبطاً متحدياً لطموحات الفرد ورغباته التي لا تتعارض مع المجتمع وتدعو إلى هدم العمران..
وأن المصلحة العامة تُقدم على المصلحة الخاصة، ولا تتوجه أطماع المصالح الخاصة توجهاً يُضِّر بالمصالح العامة..
تلك هي الموازين العادلة..
والقوانين الناعمة..
دونما إفراط أو تفريط..
وأن الرقيب على ذلك كله هو الله وحده، خالق الإنسان ومعلمه البيان، والذي يجب أن ينظر كل أحد إلى مرضاته ويراعي سخطه ويخشاه ولا يخشى سواه..
هكذا هي خلاصة ما كتبت وما خاطرني به تاريخ الأمم من بين دفوف الكتب، وما حدثتني به خواطري عن العالم الخالي والحالي، ورأيت أن من الأمانة والواجب على أي قارئ جيد أن يكتب لمن لا يقرأون ويُسمِعهم حتى يملأ آذانهم كل ما قرأ بأسلوبه وميوله، وللناس أن يقبلوه أو يرفضوه..
وليس قبول الناس يتمثل في أن يفرضوا على أنفسهم ما قاله ذلك القارئ الكاتب فرضاً تعسفياً يؤدي إلى حروب وصراعات..
وليس رفضهم يتمثل في أن يحبسوا ذلك الشخص بين جدران السجون مع المجرمين واللصوص وقطاع الطرق والقتلة السفاحين..
وليس أيضاً من الواجب أن يشيدواسجوناً خاصة بالمثقفين..
فالمثقفين سجونهم المكاتب..
وهي ميدان مبارزاتهم..
فمبارزة الكُتَّاب لا تكون إلا بالأقلام..
كما أن مبارزة القُرَّاء لا تكون إلا بالكتب..
ولكني رغم كل ذلك سُجنت..
وحدثت صاحبي السجن بهذا الحديث..
وأنصتوا لي في عجب، فقد أخذ حديثي ألبابهم البسيطة أخذاً كأنما أسكرهم، فسألني أحدهم في سذاجة: ولكن أي جريمة اقترفتها أنت في كل كلامك هذا؟
فقلت له: لا أدري..
فقال الآخر في بلاهة: وأنا أيضاً أكاد لا أصدقك، ولكني سمعت من أحد أصدقائي أنهم يعتقلون الشيوعيين..
فقلت له: ولكني لست شيوعي..
فقال الأول: قد تكون إرهابياً مثلاً..
فقلت: أنا في عمري لم أُمسك سلاحاً فضلاً عن استخدامه..
فقال الآخر في بلاهته المعهودة: لالا.. لابد أنك محبوس بالخطأ، ونهض في جنون ينادي على الحارس: يا عسكري، معنا رجل مفكر وله عقلية مثقفة، وليس شيوعياً وليس إرهابياً، فلماذا حبستموه بين المجرمين؟!
فهرول العسكري فور سماعه لنداء السجين الأبله، وروى للضابط ما حدث، وما سمعه من حديث، فأمره الضابط بحبس المثقف انفرادياً وقال: إن حديثه مع المجرمين من الخطر بمكان..على الأمن العام..
فذهب العسكري من فوره وفتح باب السجن وشد الشاب المثقف من ذراعه الأيسر زاعقاً: تقدم أمامي يا متهم، لقد أمر الضابط بحبسك انفرادياً لكونك خطيراً على الأمن العام..
فنظر الرجل إلى صاحبيه مودعاً.. 
وداعاً يا صاحبي السجن..
فبكى كلاهما، ولم ينسيا ذكراه، وظلا يكتبان حديثه على جدران السجن، وعلى ملابسهما، وفي قلوبهما هو مكتوب أيضاً.
وخرجا إلى الحرية، وظل الشاب مسجوناً دهراً طويلاً..
وذهبا إلى المكتبة..
وقرأ كل منهما الكتب..
خرجا من السجن ليس كما دخلاه..
ولم يصلح فيهما السجن شيئاً..
بل هو السجين المثقف..
جعلهما يخرجان ليبحثان عما سجن ذلك المسكين..
وقد تثقف كل منهما، وافتتحا داراً للنشر، وأخذ كل منهما على عاتقه..
حمل رسالة ذلك الصاحب المؤثر..
صاحب السجن..
وأصدرت دارهما الكثير من الكتب التي تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي، وتبنوا الكثير من الشبان المهتمين بالتاريخ والسياسة والاقتصاد، بل والروائيين الذين يكتبون روايات هادفة..
ولكن هناك شيء هو الأهم..
لقد كان اسم تلك الدار عجيب بحق..
سموها..
دار الأسير..
وكان كل إهداء في كتاب يكتبانه لابد أن يحمل اسمه..
وكل حفلة ومسابقة تقام برعايتهما، لابد أن تحمل اسمه..
وفاء له..
إنه صاحب السجن..
يا سيدي القاضي..
ويا حضرات المستشارين..
إنها الأجساد تُسجن..
ولكن العقول أبداً لا تُعتقل أفكارها..
فهي كالأرحام تحبلها..
وتأبى الأفكار إلا أن تُولد فتكون..
بامر من إذا أراد شيئاً يقول له كن..
فيكون..
سبحانه..

تمت،،

Tags

إرسال تعليق

0تعليقات
* Please Don't Spam Here. All the Comments are Reviewed by Admin.

رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك

رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top