كان يسير في أحد الشوارع المزدحمة بعد انتهاء دوامه، في تمام الساعة الثانية ظهراً -ساعة الذروة- حين انتهاء الدوام للكثير من موظفي القطاع العام وللكثير من طلبة المدارس، حينئذ تزدحم المواصلات وتكتظ الشوارع وتعاني المدينة من الضوضاء والمشاجرات والتحرشات والكثير من الظواهر المؤلمة وليدة اختلاط الناس وازدحامهم.
شيء ما لفت انتباه ذلك الرجل العسكري ذو ربعة ووجه أسمر وبذلة بيضاء وقبعة رجال الشرطة، وتزين منكبيه العريضين شريطة فارغة بلا نجوم، وقف ينتظر أحد الحافلات للعودة إلى منزله، فقد لمح سيدة منتقبة نحيلة الجسد، حادة العينين، كثيرة الالتفات يمنة ويسرة، فارتابت حاسته الأمنية التي نمت على مدار سنوات عمله في مديرية الأمن فلم يصعب عليه أن يشم رائحة عفنة تفوح من تلك السيدة المريبة، والتي لم يكن نقابها هو ما يدعو للارتياب، بل نظراتها وكثرة التفاتها، وزاد ارتيابه أكثر محاولتها لركوب حافلتين شتان ما بين خط سيرهما، فازدادت ريبته أكثر، ولم يطق صبراً على شكوكه التي عصفت به شرقاً وغربا، فذهبت به كل مذهب، فاتخذ قراره بمراقبة تلك السيدة في الحافلة التي أسرعت بركوبها، وصعد معها وانتبه لعدم جلوسها على أحد المقاعد رغم أنها كانت من أوائل الركاب، فاستعرت نيران شكوكه أكثر.
راقبها وهي تبتعد عن الرجال وتدنو من النساء رغم أن ذلك قد يبدو طبيعياً في الزحام إلا أن عقليته الأمنية الخبيرة بمثل تلك التصرفات المريبة وضعت تلك التصرفات موضع الريبة وأصدر حكمه بأن تلك السيدة تسعى لشيء ما غير قانوني..
وغير إنساني..
أخذ يرقبها حائرة مضطربة تلتفت يمنة ويسرة كعادتها منذ وقعت عيناه عليها، إذ بدت أشبه بشخص مطارد يحاول الإفلات من كل عين ترصده.
تلاشت أفكاره فجأة عندما توقف محصل التذاكر بالحافلة أمامه يطالبه بدفع الأجرة فنقده ثمنها، ثم استأنف مراقبته لتصرفات تلك السيدة المريبة، وأخذت حقيقة الموقف تتضح أمامه شيئاً فشيئاً.
أخذت تلك السيدة تدنو شيئاً فشيئاً من بعض فتيات المدارس الواقفات بالحافلة يتبادلن الأحاديث، ولم تعر أجملهن وجهاً انتباهاً إلى تلك السيدة التي التصقت بها من خلفها بشكل أثار ريبة الفتاة، فحاولت تجاهل ما يحدث وراحت تبادل أصدقائها أطراف الحديث، إلا أن تمادي المنتقبة خلفها بملامسة أردافها، وازدياد حدة الاحتكاك، فالتفتت خلفها أكثر من مرة عساها تكف عن شنيع فعالها دون جدوى، فظلت الفتاة زائغة البصر تصرخ نظراتها بالهلع والخجل، ولما وقعت عيناها على بارقة أمل وسط ظلام الزحام وغفلة الركاب عما يحدث.
تطلعت إلى ذلك العسكري الذي لاحظ ما يحدث بنظرات تصرخ مستغيثة، وكأنه سمع صرخات أعماقها بملء أذنيه، حتى هرول إليها صائحاً:
كلا.. إنها ليست سيدة!!
وألقى ما بيديه على أحد المقاعد بالحافلة، فتطلع إليه الركاب في ذهول وهو يدنو من الفتاة قائلاً لها:
ماذا تفعل تلك السيدة من خلفك؟!
أرتج على الفتاة من فرط الصدمة، ولم تنبث ببنت شفة، فتوقف السائق وارتفع ضجيج الأصوات تسب وتلعن تلك السيدة المتنكرة، واحتشد الجميع حولها وساد الهرج والمرج.
فقال أحدهم وقد نزع النقاب عن وجه السيدة:
- إنه رجل وليست سيدة..
وصفعه آخر على وجهه قائلاً:
- ماذا تفعل بالفتاة أيها الحقير؟!
وركله أحدهم على عجيزته شاتماً:
- هل وصلت بك الوقاحة أن ترتدي زي امرأة يا مخنث؟!
وأصر العسكري على ضبطه وإحضاره، ولكن استطاع الشاب أن يتحين فرصة الصخب والازدحام، وأخرج من جيبه مدية حادة وضرب بها يد العسكري الممسكة بتلابيبه، ولاذ بالفرار، بينما حاول بعضهم اللحاق به، في حين وقف العسكري ينزف دما، ووجد الفتاة من خلفه تقول له:
شكراً لك يا سيدي .. أعتذر لك عن إصابة يدك بسببي..
ربت على كتفها في حنان أبوي قائلاً:
هذا ما كنت سأفعله لو كنتِ ابنتي..
قالت ممتنة:
أنت تحتاج إلى الذهاب إلى الصيدلية فإصابتك تنزف بشدة..
ثم رافقته معه إلى إحدى الصيدليات، وبث للصيدلي شكواه، فأسرع يحضر له بعض المطهرات ليضمد له إصابته مستمعاً إلى ما حدث، متبادلين أطراف الحديث حول أسباب التحرش وانتشار العنف وتأثير الأفلام السينمائية الهابطة في أخلاق الشباب والفتيات حتى انتهى الصيدلي من عمله، وخرج الشرطي والفتاة حتى أوصلها إلى منزلها بسلام.
وفزع الرجل عندما تذكر أشيائه التي كان يحملها في الحافلة، والتي تركها لينقذ الفتاة، وفقدها في خضم الأحداث، وهبط من الحافلة دون أن يستعيدها، وقد تناولها أحد ركاب الحافلة وعاد بها إلى منزله لا يلوي على شيء.
ولم يعلم ذلك الرجل الذي لم يكن سوى صحفي بإحدى الجرائد المعارضة، أن حظه أوقعه على سبق صحفي كفيل بأن يقلب الدولة بأجمعها رأساً على عقب.
وقد أوشك الشرطي الشهم على الانهيار وكاد يروح في غيبوبة من فرط الصدمة، لولا أن استجمع بعض شجاعته وقواه يفكر في مخرج من تلك الحفرة التي وقع فيها.
وقال لنفسه متمتماً: من المستحيل أن أجد الحافلة دون معرفة رقمها، وأطرق برأسه في حزن وأسف وراح يستكمل طريقه، بينما راحت الأفكار تتوارد على ذهنه منذ بدأت مغامرته، يتصارع شعوره الندم على فضوله وعلى اندفاعه لمراقبة تلك السيدة المريبة، مع شعوره بالرضا عن فعله وأنه لم يفعل إلا خيراً، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً..
وما لبثت مشاعر الرضا بداخله إلا أن أعلنت انتصارها، وسيطرت على أعماقه وراح يكرر الحمد لله على كل حال حمداً كثيراً..
واستكمل سيره في الطرقات شارداً حزيناً مردداً إنا لله وإنا إليه راجعون، حتى عاد إلى منزله مطرقاً رأسه مغموماً، وراح يروي لزوجته ما حدث فما كان منها إلا أن ربتت على كتفه قائلة : لا تحزن ففاعل الخير لا ولن يضيع أجره.
وعندما جاء المساء أبى النعاس أن يزوره، وأبت جفونه إلا السهاد، وراحت الهموم تثقل قلبه وتؤرق عقله حتى ملت منه، وغط في سبات عميق.
ورأى فيما يرى النائم.. أنه يسبح في بحر عميق، شديد الظلام، والرياح شديدة البرودة، وأمواج البحر عاتية عالية، فأخذ يرفع يديه مستغيثاً بكلام لا يفهمه، وأخذت الرياح تشتد أكثر، والأمواج تصارع الرياح كأنهما جيشان يتبارزان في معركة عنيفة قامت بينهما، وكاد أن يروح الرجل ضحيتها..
وظل يستغيث..
ويستغيث..
ويستغيث..
وما من مغيث!!
حتى وجد شيئاً كأنه مغناطيس يجذبه إلى القاع..
بمنتهى الشدة..
والقسوة..
اندهش لكونه لم يختنق، رغم أن ذلك الشيء المريب ظل يسحبه بقوة وبسرعة نحو الأعماق، وراح يهبط إلى أسفل، حتى وصل إلى القاع، ولمح شيئاً اسفنجيا يرتفع وينخفض كأنه عملاق يشهق ويزفر، وإذا به يقف على ذلك الشيء ويقفز إلى الأعلى بفعل الارتفاع المفاجئ لتلك الاسفنجة الرمادية الضخمة، وطار في الهواء قليلاً، وأخذ يعبث بذراعيه في الهواء كأنه يسبح، فأنصت إلى صوت أشبه ما يكون بصوت فتاة صغيرة تترنم سابحة بقربه بين السحاب ، فما إن رآها حتى عرفها على الفور ..
تلك الفتاة التي أنقذها ..
نعم أنت هي ..
قالت له : أنا مسرورة لأنك عرفتني..
قال: ما الذي أتى بك إلى هنا؟!
قالت : أردت أن أقول لك إنك ستنجو، وأن فاعل الخير لا يضيع.
فارتجف جسده خوفاً: مم سأنجو؟!
قالت : من البحر.
قال : وكيف سأنجو؟!
قالت : بفعل الخير..
عندها هم بقول كلمة ما..
إلا أنه قد وجد نفسه يبتعد عن الفتاة..
وأخذ يهبط..
ويزداد هبوطاً..
وسقوطاً نحو القاع..
وفجأة.. استيقظ مفزوعاً.
واستيقظت زوجته على صرخته تسأله: هل كان كابوساً؟!
فأجاب: لا بل كانت رؤيا..
واستطرد قائلاً: رؤيا حقيقية..
فربتت على ظهره في حنان قائلة: لا عليك قم وصل ركعتين واقرأ بعض آيات القرآن، فلابد أنك حزين لما حدث لك صباح الأمس.
نظر إليها وراح يروي لها ما رأى..
وراحت تستمع إليه في تركيز..
وحين فرغ من روايته قالت له:
رؤيا عجيبة بالفعل.. فليحفظنا الله.
نظر إليها في خوف قائلاً: بالفعل .. فليحفظنا الله
ارتدى ملابسه وتناول إفطاره وخرج من منزله، فاستقل الحافلة العامة حتى وصل إلى مكان عمله، وتوقفت الحافلة أمام ذلك مقر عمله..
أخذ يتطلع إلى المبنى في قلق وخوف متسائلاً بداخله عن عقاب ضياع الأوراق المسند إليه إرسالها، وعلمه بمدى أهمية تلك الأوراق وما يمكن أن تتسبب في حدوثه بضياعها..
أخذت المخاوف تعصف بكيانه وتزلزل وجدانه، من أن تقع في يد يمكن أن تستغلها استغلالاً خاطئاً يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه..
لم يك ثمة مفر من التماسك والتحلى بالصبر ورباطة الجأش، لمواجهة قدره بإيمان ويقين..
وطرق باب مكتب رئيسه في العمل..
وبوغت بما حدث..
إذ رأى على بعد خطوات منه..
آخر شخص يتمنى رؤيته في تلك اللحظة..
مدير الأمن يرمقه بنظرة نارية وبادره قائلاً:
هل تدرك فداحة خطأك أيها المهمل ؟!
نظر إليه العسكري وقد ذابت الكلمات على وتمتم مرتعدا: ماذا حدث؟!
أجاب بنفاذ صبر: ضياع الأوراق منك بالأمس، وقعت في أيدي أحد الصحفيين، وانقضت مضاجعنا بالأمس على شروق شمس فضيحة كبرى على مستوى العالم بسبب تلك الأوراق التي كانت في حوزتك وأضعتها أو يمكن أن نقول سربتها لتقبض ثمنها أيها الخائن..
ولوح بيده مهدداً وقد زادت حدة صوته مستطرداً:
إنك تستحق الإعدام جزاء خيانتك أيها العسكري المهمل، ولكن لولا أن تاريخك في العمل لم يثبت عليك شبهة حتى الآن فإنه قد صدر قراري بإيقافك عن العمل تماماً ولم يعد لديك حق العمل معنا بتاتاً بعد اليوم، اغرب عن وجهي..
وألقى بجسده على أقرب مقعد وأغمض جفنيه وغاب عن الوعي، فنقل إلى المستشفى، ورأى رؤياه مرة أخرى..
ظلمات البحر وشدة الرياح وبرودتها واستغاثاته المتكررة، والغوص إلى القاع ثم فجأة ارتفع من البحر حتى رأى نفسه يطير..
وأخذ يرتفع في السماء..
ويصعد..
ويسمو..
حتى ضاق صدره من شدة الارتفاع..
فسمع صوت الفتاة..
تحدثت معه..
وراحت تطمئنه..
ثم راح يهبط..
ويهبط..
حتى أفاق من غيبوبته..
تعجبت الممرضة التي لم تتوقع أن يفيق بتلك السرعة، ونهض من فراشه بارق البصر، شاحب الوجه..
أسرعت الممرضة إلى الطبيب تخبره بالذي حدث، فهرول إلى الحجرة وكانت المفاجأة..
لقد هرب المريض..
عاد العسكري إلى منزله وأخبر زوجته بما حدث !!
ووجد البرامج الإخبارية وقنوات العالم تتحدث عن الأوراق التي ضاعت منه وما تحتوي عليه من معلومات خطيرة، وتقارير سرية متعلقة بقضية الشاب الذي عذبته الشرطة حتى الموت، وكيف أن السلطات أمرت بإخفاءها خوفاً من حدوث فوضى متوقعة وما ستفعله تلك المعلومات بالرأي العام وإشعاله ضد النظام أكثر منذ بدأت القضية بالظهورمنذ عدة أشهر، وروجت لها وسائل الإعلام المعارضة نكاية بالنظام الحاكم وتسليطاً للضوء على ممارسات التعذيب اللا إنساني ومطالبات منددة بما حدث، مهددة بإثارة وتصعيد الموقف على المستوى الدولي، ومطالبة منظمات حقوقية إنسانية بالتحقيق في تلك الحادثة التي راح ضحيتها شاب برئ يعمل بمركز انترنت قام بنشر فضيحة ثلاثة من أمناء الشرطة يتقاضون رشوة من رجل أعمال معروف للسكوت عن جرائمه، ثم اختطفوه قسراً، وزجواً به في معتقل بعيد عن بلده، وظل أهله يبحثون عنه بلا جدوى، وشاعت القضية باسمه وظهرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تندد باختفائه وتقاعس رجال الأمن عن البحث عنه واستعادته، وفور أن وجدوا جسمانه ملقياً بأحد الشوارع مشوهاً بآثار التعذيب والكهرباء، فتوقع الكثير أن بين منشوره على مواقع الانترنت عن فضيحة رجل الأعمال، له علاقة بمقتله نتيجة لما لاقاه من تعذيب، والتهبت مشاعر الرأي العام المتعاطفة مع قضيته، وأُخرجت فضائح أخرى إلى النور، وازدادت الأضواء سطوعاً على مساوئ النظام الحاكم، وأخذ كل يُدلي بدلوه، حتى ظهرت تلك الأوراق فزادت الموقف حدة، وأشعلت نيران الثورة بينما لم يكن ذلك العسكري الشهم يدري شيئا عن محتويات تلك الحقيبة السوداء التي تحمل بداخلها ما هو أشد من قنبلة نووية.
أو صاروخ مدمر..
أشعل النار في دولة بأكملها..
هو مجرد موظف كانت مهمته أن يحمل تلك الأوراق ليعطيها لأحدهم في ظل اتفاق معين على إخفاء تلك التقارير عن المنظمات الحقوقية والإنسانية لتغطية قضية الشاب الذي مات من فرط التعذيب على جريمة ملفقة نكالاً بما اقترفته يداه من نشر لفضيحة الرشوة، والتي تسببت في إثارة ذعر السلطات، وإثارة غضب الشعب على ممارسات الأمن أكثر وأكثر.
أصابه الفزع والهلع والذعر أكثر حين تبين حقيقة الموقف، ولكن تلك الرؤيا عادت إلى الظهور وعاد الصوت يهمس في أذنه..
صوت الفتاة البريئة التي أنقذها من التحرش والاعتداء في الحافلة العامة..
عاد الصوت يطمئنه بأن الله سينجيه من أمر ما..
وأن الله لا يضيع أجر المحسنين..
وفي اليوم التالي قامت ثورة في البلاد..
ثورة الشعب ضد القمع..
ضد النظام..
وانهارت المؤسسة الأمنية بكاملها..
وانسحبت صفوف العسكر وأسلحتهم من أمام جموع الجماهير الغاضبة..
وعلا صوت الحرية..
ونجى العسكري الشهم من موت محقق تعرض له الكثير من أقرانه.. العساكر البسطاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في جرائم تلك المؤسسة، وفضائحها التي راحت تتوالى وتنكشف يوماً بعد يوم..
اشتعلت الثورة وسقط النظام..
ولم يجد ثمة مفر من البحث عن وظيفة أخرى يعمل بها..
حتى وجد بغيته وحصل على قرار بالتعيين بوظيفة مشرف أمن في أحد المؤسسات الخيرية الشهيرة، بأجر أكبر وأفضل من راتب وظيفته السابقة، علاوة على الحوافز وبدلات الانتقال..
وقال: هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً.


رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك