ومن العفو ما قتل.. قصة قصيرة

1

 


كان الحاكم بطرياش عنيفا في العقوبة، وكان يحكم بلدة اسمها (اليردنا) بها الكثير من الطبقات المختلطة المتشابكة وكان يصعب تصنيف سكانها لكثرتهم، وكان حاكمها بطرياش يرى أن العقوبة القصوى هي الرادع الأمثل لضمان الأمان والحزم في الحكم.

 ومرت السنوات وأنجب ابنا يسمى زقطط بن بطرياش ، ولما لم يلتقف صدر أمه للرضاعة وامتنعت عنه المرضعات خوفا من بطش الحاكم لئلا يرفض رضاعتهن أو يصيبه الإعياء فيعاقبهن الحاكم بقسوة، أخذ الحاكم يحصر المرضعات قسرا،  فلم يلتقف الوليد إلا ثدي امرأة هزيلة استرعت سخرية الحاكم وزوجه وبكت فالتقف الطفل لبنا باكيا حزينا أورثه رحمة وشفقة..

 أخذ الطفل ينمو ويترعرع وهو يرى شعبا جبانا خائفا يحتك أحدهم بالجدران خوفا من العقوبة أي عقوبة يراها الحاكم ردعا يفرضها فتارة يعاقب المار في الشارع لو وقع أرضا وتارة يعاقب راكب الفرس إذا عدا به الفرس متهورا ليسبق موكب الحاكم وحاشيته أو أن يبتلي أحد الخدام أو الحراس بمهمة صعبة فيعجز ليعاقبه قتلا أو حرقا أو شنقا..

ولما بلغ الابن أشده ورأى على ما آل إليه حال ابيه ، حيث عوقب بكل ما عاقب به الناس.. انقطعت أوصاله اصبعا اصبعا وجلده وأخذ يسقط شعره ويحتبس بوله وغائطه، حتى مات محصورا مخنوقا مبتورا، وكأن الأرض استثقلت إذابته في بطنها، فذاب فوقها ودفن رفات جسده بعد ما فتكت به الأمراض .

فأوتي الولد رأفة وشفقة، فعاهد نفسه وضميره أن يتساهل في العقوبات ،وأن يجعل لكل المجرمين يوما- يتخذونه عيدا- يخرج فيه الأسير من سجنه، وإذا كان وقت إعدام أحدهم بالموت يخرج ليتنفس أنفاس الحرية فإن رآه صالحا وإلا أعاده لينفذ فيه حكم الموت، وبالفعل..صلح الكثير من المجرمين.

ففي كل عيد عفو كلما استنشق أحدهم أنفاس الحرية ترعرعت بداخله دوافع السلام والصلاح، وحب الناس ونبذ الإجرام وسارت سنة الحاكم (زقطط بن بطرياش) ماضية..

تعاقبت الأجيال.. أجيال خلت وأجيال أتت..

أخذت الأجيال تتدرج في اتباع تلك السنة، فالأولون حافظوا على فضلها، ثم جاءت ثلة من الآخرين ،رأوها واجبا على الحكام، وفضلا لهم إذ أن عقوبتهم القاسية جعلت الحاكم في مأزق يجعله يرى العفو عنهم في ذلك اليوم واجبا عليه ولا مناص من ذلك، فجاء يوم العفو، وصاح بعض الأحرار ببعض المعفو عنهم يعايره..

يا سارق .. مالك تريد أن تحيا مثل الشرفاء؟!

يا قاتل.. مالك تظن نفسك مثلي أنا الذي لم أقتل نملة؟!

يا زاني.. ابتعد عني فإن لي زوجة حسناء وفتاة باهرة أخشى عليهم من انحلالك..

يا للشرفاء..

يا للمجرمين..

فقامت الفتنة، وسفك الناس دماء بعضهم وصرخت النساء وهرول الأطفال،حتى خلت القرية من رجل ولم يبقى للنساء رجل سوى الحاكم وخدامه، فتهارجوا وتسافحوا سفاح الحيوانات وتفاسدوا حتى قتلت النساء الرجال وقتل الأبناء أمهاتهم ولم يعفو واحد منهم عن نفسه إذ قتل أمه.. فانتحر..

وكتب للبلدة الفناء أخيرا..

منذ ولدت يوم العقوبة.. وفنت بعد يوم العفو!!

فأخذت في يوم الفناء أخذا لا رجعة بعده..

ولا أحد يعلم حتى الآن!!

متى يكون القصاص حياة ؟

ومتى يكون العفو فناء؟!

Tags

إرسال تعليق

1تعليقات
* Please Don't Spam Here. All the Comments are Reviewed by Admin.

رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك

  1. ماشاءالله .. قصه رائعه إستمر ❤️

    ردحذف

رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك

إرسال تعليق

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top