البرمجة السياسية العصبية


بعد اشتداد وتيرة الثورات الشعبية التي اجتاحت بلادنا العربية في الفترة الأخيرة وبعد اتجاه بعض البلاد إلى الاستقرار، لم يمض الأمر بسلام، ومع تسليط الضوء على ظاهرة خطيرة ساهمت بشكل كبير في توجيه الكثير من الأحداث العصيبة، من ناحية إشعالها أو إخمادها أو تجاهلها، وهي ظاهرة البرمجة السياسية العصبية والتي ساهمت في نشوءها وارتقائها وسائل الإعلام المختلفة، والتي باستطاعتها توحيد الصفوف، بدلاً من بث روح العداوة والفرقة والحمية للأشخاص والتنظيمات الحزبية.
الأمر لا يخلو من تعقيدات ومصالح مغرضة ولكن العداوة بلغت أوجها عندما حدثت انتكاسة قد تكون متعمدة أو غير ذلك، تجلت في هتك عرض ثورات الربيع العربي حين فسرت بأنها مؤامرات وأجندات عدائية تهدف لزعزعة استقرار الدول الأمر الذي أدى لضياع مطالب تلك الانتفاضات الشعبية في الهواء وأصبحت كالرماد تذروه رياح نظريات المؤامرة.
المتهم الأول في ذلك وسائل الإعلام، أما المتهم الثاني فهو الرأي العام بأنواعه والذي انشق على نفسه، الأمر الذي يبدو طبيعياً عند اشتعال الفتن، ولكن الأمر لا يبدو مطمئناً عندما يتطور الخلاف في الرأي إلى معارك دموية واغتيالات غادرة، وتشنجات عصبية تؤدي إلى ظهورالمزيد من الصراعات والمزيد من الأزمات.
ولو تفكر كل ذي لب وجعل يفند حجج تلك الأطراف المتنازعة لتبين له أنها لا تقوم على أي أساس منطقي اللهم إلا بعض الإشاعات وتزييف الواقع حسب أهواء كل فريق على حدة، وقد لا يكون لأي فريق منهم نصيب من الحق، سوى الإفلاس الفكري والأيدلوجي وانعدام المبادئ واللهث خلف المصالح المادية والمناصب دون النظر إلى الضحايا المنساقين خلف كل فريق والذين تضيع أرواحهم من أجل حمية عمياء..
فالرأي العام من حيث التأثير والتأثر وإسهام كل نوع في اشتعال الفتن ينقسم إلى:
النوع الأول- الرأي العام القائد (المسيطر): والذي يتمثل في القادة والعلماء والمفكرين الكبار والذين قد ساهم الكثير منهم في توجيه الرأي العام وإصدار الفتاوى والمقالات والبيانات المضللة التي ساهمت بدورها في إحداث الفتنة وزيادة حدة الصراع في ظل غياب أي أصوات حيادية من شأنها أن تخمد النيران المستعرة.
 
النوع الثاني- الرأي العام المثقف: وقد خيمت ضبابات النزاع والشقاق على أبصار الكثير من المثقفين أدت إلى إسكات وقمع ذلك الرأي العام لفترة ليست باليسيرة مع قوة عوامل التضليل وحرب الإشاعات الأمر الذي نتج عنه غياب جزئي له، قد يكون ذلك بسبب غياب الحيادية وإعجاب كل ذي رأي برأيه أو انتشار مبدأ التصنيف وفرضه بالقوة فالذي يدلي برأيه معارضاً لكل طرف من أطراف النزاع، فإنه يدرج ضمن صفوف الأعداء، ويقذف بالعمالة والخيانة وغيرها من التهم السياسية الشهيرة.
النوع الثالث- الرأي العام المنقاد (المنساق): وهو المتهم الضحية الأكثر احتراقاً بنيران الفتنة من حيث علو درجة انتشار الأمية بين أفراده وانعدام الوعي السياسي لديه ليصبح كالقنبلة الموقوتة التي دائماً ما يسرع إليها صناع الفتن لإشعال فتيلها الأمر الذي يؤدي لانفجارها واكتواء الجميع بنيرانها.
لوسائل الإعلام مزايا عديدة، لكن حين تنقلب تلك المزايا لمخالب وأنياب تتوجه بطعناتها إلى الشعوب فإن الأمر يحتاج إلى إنشاء قوة ثقافية ناقدة مدعومة بالمبادئ الوطنية تحيا بروح الحيادية وتغليب الحق لمقاومة طغيان وسائل الإعلام وتعتيمها وتضليلها وكذبها عسى أن تخمد نيران الفتنة، فقد يصبح العلم في دولة ما أشد ضرراً من الجهل، لكن الثقافة هي التي تجعل الإنسان يستخدم علمه بمبادئ رشيدة لكي ينفع ولا يضر، ويتقدم المجتمع بلا تأخر..
Tags

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top