في تلك الدولة التي تقع على سطح الأرض وتمتد جذور نباتها إلى قعرها فتنبت ثماراً ناضجة بفعل البراكين المدفونة بباطنها، تعيش على ظهرها ألسنة لهب مستعرة تفاجئنا كل يوم بأحداث حارقة، تحرق القلب بلظاها وتفسد بها كل مظاهر الحياة..
في تلك الدولة العميقة التي طالما توالت على أرضها صور الاستعمار بمختلف أنواعه، فلا يكاد يجلى منها احتلالاً أجنبياً، إلا وابتليت باحتلال من داخلها، يطأ أرضها الطاهرة بأقدام نجسة، يرتع فيها بذنوب دنسة، قلوب جنده وقواده شيطانية وهيئاتهم إنسية ولغاتهم عربية بميول أعجمية، لهم مكر الذئاب وافتراس الأسود وتلون الحرباء وألسنة الأفاعي..
تلك الدولة التي عانت ولا زالت تعاني فرعنة أجيال من الشعوب تدنس أرضها الرملية المخضرة، تجدب خصوبتها وتقتل ثمارها لأجل أطماع دنية وشراهة دنيوية، ولازال لسان حال المساكين إما حقد دفين أو دعوة مظلوم.. اللهم سلم سلم..
تلك الدولة التي تتطاول أنظمتها القمعية في البنيان، فتحكم شعوبها بالدساتير الظالمة والتي لا تخدم إلا مصلحة مترفيها فتوسع لهم في معايشهم وتفتح لهم أبواب الكسب والتربح المغلقة ويتعللون للضعفاء بأن دساتيرهم تخدم استقرار حياتهم وإلا فالقتل هو مصيرهم، وإرهاب الزبانية الشرطية هو فزاعتهم لتنفيذها جبراً وقسراً، حتى إقرار تلك الشعوب بتلك الدساتير ليس إلا من قبيل الخوف من مصير الثورات المظلم، هلعاً من فزع شبح الفوضى الذي تجيد استغلاله تلك الأنظمة القمعية.. وأيما استغلال..
دستور أسيادنا وأسياد الشعب الفقير الذي يعيش بصبر أيوب ويتوهم في حكامه حكمة لقمان وفي حراسه وجلاديه خير الفرسان، لا يكمن ظلمه في أنه من وضع البشر وأنه ليس من شريعة الله عز وجل الذي ختم بها الشرائع، ولكن كم من ملك حكم بشريعة الله وظلم رعيته، وكم من دولة كافرة حكمت بأنظمة وضعية بأيدي البشر ولكنها عادلة، وليس ذلك الكلام يؤخذ علي أنني لا أنكر الحكم بالشرع معاذ الله ولكن أقول أن الشرع مصدره القلوب قبل الأوراق، مصدره تربية القاضي قبل المتهم، مصدره الرقيب على الذات قبل الرقيب السيادي السادي..
وآها من رعية تكمن خشيتهم من قوانينهم مخافة عقوبة الدنيا قبل عقوبة الآخرة، فهي رعية فاسدة، كحمير هائجة إن تركتهم عاثوا في الأرض فساداً، وإن حبستهم وضربتهم أصبحوا كحملان وديعة..
القانون العادل والدستور الضابط هو الذي يخاطب دواخل البشر وكوامنهم ويسمو بنفوسهم العلية يطهر دنسها تطهيراً حتى يصبح ابتغاء مرضات الله هو الدافع الأسمى ومخافة عقابه وسخطه هو الرادع الأوحد..
أما ذلك الدستور الذي يضعه المترفون ويتعسفون في إجبار رعيتهم للموافقة عليه مخافة الفوضى فهو ليس من العدل في شيء ولا ينتظر منه حكماً عادلاً، بل نتائجه براءة متهم وإعدام بريء..
لكنما الفقهاء في هذا الزمان هم القليل، يعيش الناس بين طرفي نقيض، فمنهم ظان أن العدل سينصب ميزانه سفهاء حريصين على الدنيا والمناصب، بدعوى أنهم دائماً ما يتكلمون بمصطلحات دينية شرعية، وآخرين يظنون في الإلحاد والكفر مظنة العدل فقط لأنهم يرون الدول التي ليست على عقيدة الإسلام هي التي تعدل بين رعيتها وحكامها هينون لينون، حياتهم يسر وتقدمهم مطرد وحثيث، فتحت لهم أبواب الدنيا كأنها جنة الخلد أنزلت في بلادهم..
في تلك الدولة أصبحت حالة شعبها مزرية، ماتت تربة أرضها وتلوثت مياه نيلها، ومرضت أنعامها وطيورها، وتسرطنت أغذيتها، وهاجت فتنة الهرج بين أهلها.. وأصبح لسان حالها يؤدي بنا أن ننعتها بأنها دولة الموت..

