من المفارقات العجيبة أن
الطاعنين في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقنون فن البروباجندا في كل زمان ومكان، ورغم
أنه لم يكن هناك وسائل إعلام تنشر الكذب والدجل والشبهات أسرع من الضوء في جميع
أنحاء العالم، إلا أن البدع والشبهات دائماً ما تظهر كومضة ضوء وتنتشر بنفس
السرعة بين الناس، وأياً كانت أسباب ذلك، إلا أنه أيضاً رغم أن الذين ينفون عن
السنة مقالات أهل البدع قد يكونون قلة أو معدومين مغمورين لا يتقنون فن البروباجندا كما يتقنه أصحاب
البدع إلا أن توفيق الله وتأييده لهم فوق كل شيء، فكم رأينا من شبهات أعجزت ألباب
العلماء والفقهاء ردحاً من الدهر، حتى يجيء فذ واحد يفند كل شيء وينقي تلك الشوائب
التي لحقت بنهر الدين العذب الزلال، فيعيده صافياً لا كدر فيه ولا عكر..
"الكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين"
هي كلمة السر التي من
علمها وفقهها وعمل بها ودعا إليها..
وبدون فن البروباجندا..
وبدون أي وسائل إعلامية
ولا شهرة..
تعود الشبهات كالحيات إلى
جحورها، فتمكث يسيراً حتى تجدب أرض السنة الخصباء فتعود من جديد تسرح فيها تلك
الحيات بسمومها فتسير في الأرض كما يشاء الله أن تسير وتلدغ من شاء الله أن تلدغ،
حتى تأتي صقور الحق بأبصارها الثاقبة فتلتهم تلك الحيات مرة أخرى وهلم جراً..
وبما أننا في شهر رمضان
الذي قال الله عز وجل فيه " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" البقرة - 185
وروى الترمذي عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من
شهر رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب،
وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي
الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة"
وروى مسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وروى النسائي عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم رمضان شهر
مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم
وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"
هنا أتانا من يقول كيف
تصفد الشياطين في رمضان، وترى أحدهم مصروعاً من المس، وآخر محسود، وغيره معشوق من
الجن فتراه طوال شهر رمضان هائج الشهوة يود لو يزني بنساء العالمين، ويتراءى له
طيلة أيام الشهر أحلام الجماع والزنا، فيستيقظ وهو جنب، وحالات كثيرة تشتكي من
ظهور علاقات محرمة قد تكون جديدة وقد تكون قديمة فالشاب تعرض له الفتاة في الشارع
أو في محل عمله أو في وسائل المواصلات فتغويه وتعشقه من النظرة الأولى ثم سرعان ما
تستعر نيران الشهوة بينهما وتنشأ العلاقة المحرمة على غير المعهود في غير رمضان من
نفور النساء عنه، أو نفوره عنهن، وكذلك يحدث للفتيات المعشوقة أيضاً على اختلاف
التفاصيل والحوادث..
وتجد المشاجرات
والمشاحنات التي سرعان ما تتطور في لمح البصر فتتحول إلى معارك دامية تزهق فيها
الأرواح وتكثر فيها الإصابات وهكذا..
والكثير الكثير مما نراه
واقعاً يحدث في رمضان وللأسف تكثر تلك الحوادث بين المسلمين دون غيرهم من أهل
الأديان الأخرى..
فما بال رمضان؟! وما بال
الشيطان؟!
ما الخطب؟!
كل هذا والشياطين مصفدة؟!
فكيف بربك لا يحدث هذا في
غير رمضان وهي غير مصفدة؟!
ولو افترضنا أنه يحدث في
رمضان وغير رمضان فكيف تكون لرمضان تلك المزية (تصفيد الشياطين)؟!
وقد ورد في الإجابة عن
تلك الشبهة ما جاء عن عبد الله
ابن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال لأبيه: إن الإنسان يصرع في رمضان؟!
قال الإمام : هكذا الحديث
ولا تكلم في هذا.
وقد تكلم شيخ الإسلام بن
تيمية عن تلك النقطة في مجموع الفتاوى فقال :- "ثم إن الظاهر تصفيدهم عن
إغواء الناس ، بدليل كثرة الخير والإنابة إلى الله تعالى في رمضان"
وقد ذهب عياض إلى احتمال
أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع
الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن
الشياطين يقل اغواؤهم فيصيرون كالمصفدين، ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية
يونس عن بن شهاب عند مسلم فتحت أبواب الرحمة، قال ويحتمل أن يكون تصفيد الشياطين
عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات، قال الزين بن المنير والأول أوجه ولا
ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره"
الأمر حقاً يدعونا إلى
التأمل قبل الرد على تلك الشبهة أو بمعنى آخر سأرفع عنها قليلاً وصف الشبهة وأصفها
بأنها حقيقة واقعة نراها ونلمسها كل يوم في رمضان، فالمشاجرات الدامية، وتكالب
الجن على المصاب روحياً من السحر أو الحسد أو المس، وكثرة وقوع السب والشتم،
وازدياد حدة الخلافات العائلية والنكد في الكثير من البيوت مما نرصده من خلال
شكاوى الكثير من الناس ووصفهم، وأيضاً ما يحدث في حياتنا يومياً نراه بأعيننا
ونسمعه بآذاننا وندركه بقلوبنا..
وتحت كلمة ندركه بقلوبنا
يجب أن نضع ألف خط..
أو مليون خط..
لماذا؟!
أقول لك...
شغل
الشيطان الشاغل هو زعزعة الإيمان وإلا فقد ذكرت لك بعاليه أن وقوع تلك المصائب
تكثر بين المسلمين دون غيرهم من الأديان..
والمسلمون
هم المكلفون بصيام ذلك الشهر وهو من أركان دينهم الإسلام..
فما تفسيرك لاختصاص
المسلمين بتلك الحرب الضروس من الشيطان دون غيرهم في شهر رمضان؟!
والجواب المنطقي أن
الشيطان يشن تلك الحرب على المسلمين دون غيرهم لأنه يعلم أن ذلك الشهر خاصة دون
غيره بالمنح الربانية التي منَّ الله عز وجل بها على المسلمين وبيان ذلك ما ورد في
فضله من أحاديث نسوق بعضها على سبيل المثال:-
1- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانًا
واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له
ما تقدم من ذنبه"
2- ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل
علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له، ورغم أنف رجل أدرك
عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة"
3- ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة"
3- ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة"
4- ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان
أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه
القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"
وليلة القدر أخرنا ذكرها
لأن شأنها عظيم فهي خير من ألف شهر كما قال تعالى في سورة القدر "ليلة القدر
خير من ألف شهر" والقيام فيها مغفرة للذنوب الماضية والآتية ويعادل عبادة ألف
شهر..
فهب أن إبليس وجنوده قد
حشدوا جميع إمكاناتهم ونجحوا في إيقاع المسلم في معصية كبيرة أو صغيرة كل يوم، بل
لو فرضنا أن اليوم به أربع وعشرون ساعة بمعدل معصية لكل ساعة، فالحاصل هو أربع
وعشرون معصية في اليوم، مقابل أن القيام مغفرة، والصيام يمنعه عن الحلال، والصدقة
أجرها مضاعف ، وإن اعتمر كان كمن حج أي رجع كيوم ولدته أمه، انظر كم في تلك المنح
من عطايا، كأنها ممحاوات تمحو الذنوب محواً، فالرحمة مفتوحة أبوابها، ومقابل ذلك
فالنار مغلقة أبوابها، لأن الطاعة إذا تضاعف أجرها فأنى للمعاصي أن تضاهيها، فكم
هو خاسر ذلك الأحمق الذي يترك كل تلك المنح الربانية، فهل ترى أن كل ما يفعله الشيطان
من وسواس لاقتراف المعاصي والخطايا يمكن أن ينهض لتجفيف تلك المنابع الرحمانية
التي تتدفق أنهاراً لتطهر البشر تطهيراً من آثامهم كبرت أو صغرت، حاشا وكلا
فالشيطان مهما فعل لا يستطيع منع تلك المنح عن عباد الله المسلمين.. إذن
فماذا يفعل؟!
النتيجة الحاصلة أن الأحاديث
قد أوضحت أن تصفيد الشياطين خاص بمردة الجن، وعلى المعنى المجازي فإن التصفيد قد
يعني أن جهود إبليس وجنود في إغواء المسلمين تضيع هباء في لحظات الطاعة وكأنها لم
تكن، وهذا من التصفيد أيضاً، مثال ذلك أن تأتي برجل وتامره أن يفرغ البحر الكبير
بدلو ماء ويضعه في مكان آخر، فسينظر إليك باستغراب ويقول لك: مستحيل!!.. فهو
يستطيع أن يملأ الدلو من البحر ويفرغه في مكان آخر، لكنه يدرك بطبيعة الحال أنه من
غير الممكن أبدأً تفريغ البحر.. فكذلك الشيطان يدرك جيداً طبيعة شهر رمضان المبارك
وما فيه من منح هي أشبه بالبحر لا ينفد، ولا تصمد السيئات أمام أجور الطاعة فيه..
ومن هنا كان للشيطان عليه
لعنة الله إلى يوم الدين، خطط بديلة وحيل عظيمة لإفساد ذلك الشهر على المسلمين..
هنا لابد لنا من وقفة
نطرح خلالها أسئلة هامة جداً لتدرك خطورة الأمر وضراوة الحرب بين المسلمين
والشياطين وإلى أي مدى يشتد غضب الشيطان وبغضه المفرط لذلك الشهر المبارك..
السؤال الأول:-
المشاجرات.. هل هي ظاهرة حديثة أم قديمة ولماذا تكثر في رمضان وما هو مدى خطورتها؟!
السؤال الثاني:- الصراعات
الروحانية بين عالم الجن وعالم الإنس لماذا تشتد وهل من علاج فعال وسريع لذلك؟!
وهنا الرد الحاسم على تلك
الشبهة الكبيرة التي قد تهز معتقد بعض الناس في الإيمان بالسنة وما جاء عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم من حكمة لم ينطقها عن الهوى ولا نجد الهدى والله في سواها..
فالسنة لم تغفل تلك الخطط
البديلة للشيطان لإفساد الشهر، فقد لفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى
أهم ظاهرتين في رمضان توضح لنا خبرته الواسعة بالشيطان ومكائده وماينبغي للمسلم
فعله من أجل مواجهة تلك الحرب..
ملحوظة:- الرسول صلى الله عليه وسلم
يخاطب النفوس القوية التي تعودت أن تحط تعاليمه محط التنفيذ في التو والحال وهنا
فقط سر القوة العظمى للمسلم والتي تجعله يصبر على حمل الجبال لأعوام، ولا يصبر قط
على الركون إلى معصية الله طرفة عين..
خطة الشيطان لإيقاع العداوة
بين المسلمين بالشجار والتلاحم:-
فقد روى البخاري ومسلم عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جُنة فلا
يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين"
ورى البخاري ومسلم أيضا
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز
وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان
يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ
صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله، يوم القيامة، من ريح
المسك"
فها هو الرسول صلى الله
عليه وسلم يلفت أنظارنا لأكثر ما يمكن أن يقع في رمضان وهو الرفث والجهل والمقاتلة
والمشاتمة، ونهى عن الصخب، وما قد يعاير به المسلم من كراهة الرائحة المنبعثة من
فمه لجفاف الريق..
هنا يتجلى لنا بقوة مدى
إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم لما قد يفعله الشيطان بالنفوس الضعيفة وكيفية
التلاعب بها، فالمقاتلة والمشاتمة هي أكثر ما يقع في شهر رمضان وعلى المؤمن القوي
أن لا ينسى أنه صائم، ويعلنها بأعلى صوته جهراً وبقوة "إني امرؤ صائم .. إني امرؤ صائم" فهي السبيل الأوحد لاستنزال الرحمة
الربانية والنصرة على كل معتد أثيم..
أيضاً ما جاء في الحديث
الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله
عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال : خرجت لأخبركم
بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة
والسابعة والخامسة"
وهنا ندرك أن الخصومة
التي وقعت بين الصحابيين كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد كانت سبباً في الحرمان
ونسيان الرسول صلى الله وسلم لموعد ليلة القدر على وجه التحديد وفي ذلك ما فيه من
برهان على أن حضور الشيطان في مكان يكون سبباً لرفع البركة والخير، ومن ذلك يتضح
لنا أن الشيطان منذ عهد الرسول يسعى جاهداً دون كلل أو ملل في إفساد ذلك الشهر
جليل الشأن عظيم البركة على المسلمين.
وأيضاً لم يغفل الرسول
صلى الله عليه وسلم أن يلفت نظرنا لنبذ الرفث، فإن الصيام في الأصل امتناع عن
الشهوة الحلال فكيف بالشهوة المحرمة..
وهنا نود أن نتباحث معاً
في كيفية إيقاف الصراعات الروحانية التي تشتد في ذلك الشهر المبارك وأرى أنه من
المستحسن أن أغلق الموضوع عند هذه النقطة وإفرادها بمقال آخر اجتناباً للإطالة
المملة والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه
على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
رأيك مهم لذا لا تبخل بترك تعليقك